تراجعت مكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي في العقد الأخير على نحو واضح المعالم، عما كان عليه حالها أثناء حقبة الحرب الباردة، وفقدت كثيرا من قدرتها في التأثير على القرارات الاستراتيجية على المستوى الدولي سواء داخل الأمم المتحدة أو في علاقاتها مع الأطراف الفاعلة عالميا، ويبدو أن ذلك نابع عن أمرين على الأقل، أولهما ما رافق الداخل الأمريكي رسميا وشعبيا من شعور بانتفاخ الكتلة الخرافية التي تمتلكها الولايات المتحدة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق نهاية عقد الثمانينيات مما ولّد انبهارا طاغيا بالنموذج الأمريكي فيه كثير من خيال سينما هوليود عن قدرة هذا النموذج على فرض نفسه على الشعوب وإجراء تغييرات في المنظومة القيمية لها، مع أن الولايات المتحدة لم تحقق نصرا في حرب خارجية واحدة خاضتها لوحدها.
والثاني توجهات السياسة الأمريكية بعد العدوان على العراق وخاصة في إدارة الرئيس باراك حسين أوباما الذي حاول توظيف شعار نبذ سياسة الحرب، ويصنف المراقبون أوباما كأضعف رئيس في تاريخ الولايات المتحدة منذ استقلالها عام 1776، ولما لم تواجه حالة التراجع في مكانة أمريكا دوليا نتيجة الشخصية المهزوزة للرئيس أوباما ونتيجة تصدع هيبتها في مواجهة المقاومة العراقية المسلحة، فقد طرح مراقبون استراتيجيون داخل أمريكا فكرة أن الأمريكي المكروه دوليا حتى من قبل شعوب الدول الحليفة، هو الذي أحبط كل حالات التململ التي رافقت تراجع مكانة أمريكا عالميا خلال رئاستي أوباما وكل محاولة لوقف التداعي في مكانة أمريكا.
لكن حالة إنكار لهذا التراجع الاستراتيجي الأمريكي ما زال يفرض نفسه على بعض الجهات الرسمية التي وتحاول إخراج البلاد من شرنقتها، فالكونغرس الأمريكي يخرج بين آونة وأخرى من غيبوبته فيرى غاطس الكارثة التي وصلتها أمريكا، حينذاك يمارس عملية جلد للذات، وتستفيق الغطرسة الأمريكية من رقادها وتستعيد شيئا من وهم القوة التي صارت جزء من الماضي، فيحاول أن يستبدل وظيفته من سلطة تشريعية للشعب الأمريكي، إلى سلطة دولية تنيط بنفسها مهمة تطبيق بنود ميثاق الأمم المتحدة، وكأن الكونغرس سلطة انتخبتها شعوب الأرض ليدافع عنها، ولهذا كان يحشر نفسه في قضايا ليست من اختصاصه أبدا.
ما ينطبق على الكونغرس كان ينسحب بدرجة أكبر على وزارة الخارجية الأمريكية، التي من بين أبرز مفارقاتها أنها تصدر تقريرا سنويا عن الالتزام بحقوق الإنسان على المستوى الدولي، في وقت كانت الممارسات الأمريكية في أعلى درجات التنكر لأبسط مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف وخاصة الثالثة والرابعة لعام 1949، واللافت أن واشنطن التي تتجاهل خروقاتها الفاضحة للقوانين الدولية، وخاصة ما شهده سجنّا غوانتانامو وأبو غريب، كانت تباشر إصدار تقاريرها في توجيه الاتهامات يمينا وشمالا مبتدئة بأقرب حلفائها وأصدقائها إليها وكأنها تعاقبهم مرتين، مرة عندما جلبت لهم غضب شعوب تلك الدول على اختيارها لعلاقة غير متكافئة مع الولايات المتحدة، ومرة أخرى بتوجيه نقد غير مسؤول للسياسات الداخلية لتلك الدول، في حين توزع أوسمة الكفاءة والتميّز على دول مارقة عن القوانين الدولية على نحو يراه حتى العميان، كما هو الأمر بالنسبة لإيران وممارستها العدوانية التي لم تواجه بإدانة صريحة مباشرة أو خطوة عملية واحدة لردعها عن غيها، ويمكن أخذ نموذج التدخل الإيراني في عشرات الساحات العربية والدولية عن طريق تشكيل حركات إرهابية مرتبطة ماليا وتسليحيا وعقائديا بالحرس الثوري الإيراني والولي الفقيه الإيراني، وهذا يجسد صورة صارخة على تعدد المكاييل والموازين الأمريكية في التعامل مع الدول الأخرى، في قرن قررت مراكز صنع القرار الأمريكية أن يكون قرنا أمريكيا بلا منازع، ولكن خيوط اللعبة بدأت تحرج تباعا من بين أصابع اللاعب الأمريكي.
فقد أقر مجلس النواب الأمريكي تشريعا يسمح لأسر ضحايا 11 سبتمبر بمقاضاة الحكومة السعودية على الأضرار التي لحقت بهم وكان مجلس الشيوخ قد وافق بالإجماع في أيار على “قانون تطبيق العدالة على داعمي الإرهاب” والذي يعرف اختصارا باسم “جاستا”.
تنص جميع القوانين الجنائية على أن الجريمة شخصية، وأن أسرة الجاني لا يمكن أن تتحمل جانبا من المسؤولية لما ارتكبه أحد أفرادها، وإلا فن الصورة ستكون في غاية الفوضى والإرباك، فإذا كانت العائلة غير مسؤولة عما يرتكبه فرد فيها خضع في مراحل طويلة من عمره لتربيتها وإشرافها على سلوكه، فكيف يمكن أن تحاسب الدول عما يرتكبه رعاياها من أعمل في بلدان أخرى؟ وهل ينسحب التكييف القانوني لقرار الكونغرس على الجرائم العادية أم سينحصر في نطاق ما يسمى بالإرهاب؟ وإذا كان الأمر كذلك فلا أحد يدري لماذا لم تتم محاسبة أمريكا كدولة عما ارتكبه أمريكيون من جرائم مختلفة كانت شعوب العالم الثالث ضحيتها الأولى؟ وهل سيكون بمقدور العراقيين ملاحقة أمريكا على ما ارتكبه موظفون رسميون أمريكيون من جرائم تعذيب منهجي تأكد أن أوامرها كانت تصدر عن أعلى المراكز القيادية في البيت الأبيض والبنتاغون؟ هنا تتأكد المسؤولية الجنائية للولايات المتحدة بصورة أجلى وأوضح مما يمكن أن تتحمله المملكة العربية السعودية عما ارتكبه مواطنون سعوديون ومن جنسيات أخرى في تفجيرات 11 سبتمبر.
إن القانون الدولي يمر بمنعطف خطير وقد يتحول إلى أداة بيد الدول الكبرى لفرض تفسيراتها على الدول الصغيرة، لكن واقع الحال يقدم لنا وقائع أخرى يمكن أن تدحض النوايا الأمريكية ليس من خلال صدام مع المملكة العربية السعودية فقط وإنما مع جهات دولية أخرى، وفقا لحيثيات قرار الكونغرس الأمريكي يجب أن تتحمل المسؤولية السياسية والقانونية والجنائية لما ارتكبه بعض أبنائها من “أعمال إرهابية”، فقد نشرت صحيفة “زمان الوصل” السورية المعارضة وثائق مكونة من 1736 صفحة، قالت إنها حصلت عليها من أحد المنشقين عن “داعش”، أشارت إلى أن القائمة تضم 35 مقاتلا من فرنسا، و18 من ألمانيا، و16 من بريطانيا، و6 من كندا، و4 من أمريكا، وهناك عدد غير معروف من الروس، فهل تشمل الولاية القانونية لقرار الكونغرس الأمريكي رعايا هذه الدول وخاصة روسيا؟ ثم ما هو موقف القانون الدولي من قادة دول شنت عدوانا على بلدان أخرى بذرائع تأكد بطلانها؟.
منعطف 11 سبتمبر 2001
بعد حادثة 11 سبتمبر 2001 ارتفعت دعوات الانتقام من الدول التي ينتمي إليها منفذو العملية التي استهدفت برجي التجارة الدولية في نيويورك وأهدافا أمريكية أخرى، وخاصة المملكة العربية السعودية، ويبدو أن هذه الدعوة لا ترتبط بمعلومات عن علاقة مؤكدة بين المنفذين والدولة السعودية، بقدر ما تعبر عن خزين الكراهية الذي تتعامل به الأوساط السياسية والتشريعية والإعلامية في الولايات المتحدة مع أبرز أصدقاء أمريكا في المنطقة على الرغم من ميزان المكاسب السياسية والاقتصادية يميل لصالح أمريكا، وهذا هو وحده الذي يدفع بالإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى لجم أجواء الكراهية في أمريكا تجاه السعودية.
من المعروف أن إيران كانت تعيش في أفضل حال في علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع الدول العربية ومع العالم الغربي، مستفيدة من ظرف دخول العراق إلى الكويت وما نتج عنه من توازنات سياسية وعسكرية في المنطقة، وهنا لا بد من التذكير مما قاله جورج تينت مدير وكالة المخابرات المركزية (في اليوم التالي لهجمات 11 سبتمبر، التقيت بالمسؤول السابق في وزارة الدفاع وأحد أبرز مفكري المحافظين الجدد ريتشارد بيرل، بينما كان خارجا من البيت الأبيض، وقد فوجئت ببيرل الذي لم يشغل منصبا رسميا في الإدارة الأمريكية يقول “على العراق أن يدفع ثمن ما حدث بالأمس، إنه يتحمل المسؤولية”، وقد صدمني ما سمعت، فالتفت إلى الخلف سائلا نفسي “ما الذي يتحدث عنه هذا الرجل بحق الجحيم؟” كما رحت أتساءل عن سبب وجود بيرل في البيت الأبيض في أولى ساعات صباح ذاك اليوم تحديدا؟)
.
ومن هذا التوجه ما جاء في كتاب تينت “قلب العاصفة” ص 47، يمكن أن نؤشر أن الإدارة الأمريكية التي كان يرأسها جورج بوش الابن ومعه صقور الحزب الجمهوري، نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد وبول ولفوفيتز مساعد وزير الدفاع والذي يعتبر من أبرز المنّظرين لأيديولوجية اليمين الجديد الذي أمسك بمفاصل للسياسة الخارجية الأمريكية العدوانية…..
1 – أنها كانت في غاية الاستعجال وسوء قصد بتوجيه التهمة للعراق استنادا إلى النوايا وليس إلى الوقائع، استنادا إلى تاريخ عمره عشر سنوات من غاطس عداء قديم بسبب تفسير متجذر في عقلية صنع القرار الأمريكي “أن كل من لا يستجيب للإرادة الأمريكية فهو مشروع عداء وطموح غير مسموح به سيصبح تهديدا مؤكد للمصالح الأمريكية في أهم منطقة من مناطق العالم”، ثم وجد هذا التوجه في دخول العراق إلى الكويت لأمريكا مبررا لشن حرب عالمية عليه دمرت فيه كل الركائز شواهد البناء وأعادته حسب قول جيمس بيكر وزير خارجية بوش الأب إلى عصر ما قبل الصناعة، ولعدة عقود من الصدام السياسي المتصل، ولما لم يتمكن الرئيس الأب من إنجاز هذه المهمة فقد أحالها لابنه الذي قام بها على أفضل ما تمناه أبوه،
2 – أن اسم إيران كان غائبا عن الحوار الداخلي بين كبار المسؤولين الأمريكان وأنفسهم أو بصوت مسموع مع بعضهم، كما غاب عن خيال المسؤول الأمريكي الذي كان ولا شك قد خرج لتوه من اجتماع مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وأنه عكس بملاحظته المتسرعة الأجواء التي كانت سائدة في اجتماعات البيت الأبيض.
لا تحمّل الدولة التي يحمل المنفذون جنسيتها وزر ما حصل، بل الطرف المحرض والذي افترضه ريتشارد بيرل أنه العراق، وإذا كان هذا القياس صحيحا، فإن إيران التي رعت ودربت إرهابيين من مختلف الجنسيات على هجمات تعرضت لها منشئات تابعة لدول أخرى بما فيها قوات المارينز، يجب أن تحاسب قبل غيرها على تلك العمليات، خاصة وأن سجلها حافل بممارسات أقل ما يقال فيها أنها عمليات إرهابية.